بين الحدّية والنسبية

أضف رد جديد
الناسخ
مشاركات: 705
اشترك في: الأربعاء يناير 05, 2022 10:28 pm

بين الحدّية والنسبية

مشاركة بواسطة الناسخ »

مشرف
2012-07-06



بين الحدّية والنسبية
 

عقائد غريبة يؤمن بها علماء هذا الزمان، ويدعون الناس إليها على أنها من دين الله، وإلا كيف يعتقدون بأن التوحيد يزيد و ينقص؟!
قال عبد المالك رمضاني في مجلة "منابر الهدى" (العدد: 3): (ومهما بلغت الأمة من الوعي فيه "أي التوحيد" والإستجابة له مبلغ الكمال فإن النقصان وارد على البشر جدا، وشر النقصان نقصان الإخلاص واضمحلال التوحيد، ولذلك لم يسكت النبي –صلى الله عليه وسلم– عن التنديد بالشرك حتى في أخريات أيامه، وقد بلغت الأمة آنذاك أوج قوتها في توحيد ربها ووحدة صفها).
إنه تمييع للدين، فالتوحيد مبدأ يثبت أو ينتفي، ولا وسط بينهما، فإذا دخله الشرك يوما بطل التوحيد، ولا يلتقيان أبدا، إن توحيد أبي بكر في مكة هو نفسه في أواخر حياته، لم يتعلمه تدريجيا، بل أخذه كلا لا يتجزأ، أما ما تلقاه تدريجيا فهو الشرائع والدلائل الأخرى على التوحيد.
وهكذا يجعلون الفرق بين التوحيد والشرك كالفرق بين السابق بالخيرات والمقتصد، بين الذي اجتنب الشبهات والمكروهات وعمل بالمستحبات ومن اقتصر على أداء الفرائض وترك المحرمات فقط، واعتبروا المشرك من جملة المسلمين، لكن الموحد أسمى منه درجة عند الله وأعلى مقاما، وقالوا أن الإسلام لا يقام طفرة واحدة.
وقالوا: أتريدون أن يكون إسلام الناس مثل الصحابة؟ نعم، يجب أن يكونوا مسلمين كالصحابة، ولا فرق بين إسلام هؤلاء وهؤلاء، فإسلام الأنبياء وإسلام الناس واحد، كما ذكر الله –تعالى– عن ملكة سبأ قولها: ]وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ[ [النمل: 44]، وليس في ذلك مراتب أو درجات، وليس في الإسلام تفاضل.
وإنما يتفاضل المؤمنون في تقواهم وإيمانهم وخوفهم من الله، فهذا هو الذي يزيد وينقص ويتطور، فإن أسلموا بقي الفرق بينهم وبين الصحابة والصالحين في التقوى وسعوا لتزكية نفوسهم.
أما التوحيد فهو واحد، كما أن الشرك بالله واحد لا مراتب فيه، ولا منزلة بين المنزلتين، فليس هناك إسلام ناقص أو شبه إسلام، ولم يرد في ديننا أن هناك غلوا في التوحيد أصل الدين، لأنه شيء واحد لا يتبعض، فالإيمان لا يزيد بالتوحيد، ولكن يقوم عليه، ولا ينقص بالشرك، ولكن الشرك يبطل الإيمان ويحبطه.
بخلاف الذين جعلوا الشرك الأكبر منافيا لكمال التوحيد، أو الذين يطلقون قول بعض السلف: يجتمع في المسلم كفر وإيمان، هكذا دون بيان، فعلماء السلف كانوا يقصدون المعاصي التي تسمى كفرا أصغر، والتي لا تنقض الإيمان، فالواجب أن توضح هذه المعاني للناس، حتى لا يظن ظان أن الإسلام يجتمع بالكفر عند امرئ مسلم.
ومثله قول بعضهم أن فهم "لا إله إلا الله" مراتب، فيتفاوت الناس في إدراك التوحيد، لإبطال كفر جاهله، ]يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ[ [الصف: 8].   
 فلم يبق لدين الله عندهم حد معلوم يفصل بينه وبين الكفر، وإنما كل شيء عندهم نسبي، وكأن التوحيد شرط كمال للإيمان لا شرط صحة، بينما الدخول في الإسلام والخروج منه وثبوته وانتفاؤه ليس نسبيا، كما لا يصح أن يكون الرجل داخل البيت وخارجه في نفس الوقت.
 قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: (لا يجتمع الإيمان والكفر في قلب امرئ، ولا يجتمع الكذب والصدق جميعا، ولا تجتمع الخيانة والأمانة جميعا) ]رواه أحمد[.
قد يتهربون من تحديد الحد الفاصل بين الإسلام والكفر، وبين المسلم والكافر، بحجة أن المقدار الذي يمكن أن يظهره المسلم من دينه يختلف باختلاف الظروف المحيطة به، وبهذا يصير التوحيد نسبيا.
والحقيقة أن كلامهم هذا عن الإكراه، والمعروف أن الإكراه يخص الأمور الظاهرة، وهي العمل والقول، كأن يجبر على عبادة غير الله، أو قول كلمة الكفر، وهو استثناء وليس أصلا، أما الإعتقاد فلا إكراه عليه، فالمسلم في حالة عادية أو في حالة الإكراه سواء، من ناحية معرفة التوحيد والإعتقاد به.
وهذا مثل حالة الأبكم الذي لا ينطق بالشهادة، فلا علاقة لهذا بالعلم والجهل، إذ أن الكافر الجاهل الذي منعه غيره من معرفة التوحيد لا يكون مسلما، وإن كانت نيته حسنة.
ومن خصائص دين الله أنه يضبط المسائل، ويضع كل شيء في مكانه، نجد هذا في تفاصيل الشريعة، فما بالك بضوابط الدين الكلية التي يتميز بها من يكون من أهل هذا الدين عن غيره؟ وكل المبادئ لها حدود وضوابط، وتعتبر من خرج عنها كافرا بها، حتى وإن خضعت المذاهب الجاهلية كالديمقراطية للتطور والنسبية فإن الإسلام أكبر من ذلك كله.
]إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِيناً[ [النساء: 150/151].
إنه لا يجتمع الإيمان بالله والإيمان بالباطل، يقول الله –تعالى-: ]وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ[ ]العنكبوت: 52[، والإحتكام إلى الطاغوت إيمان به وكفر بالله، ولا تداخل بينهما، يقول          -سبحانه وتعالى-: ]لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا[ ]البقرة: 256[.
وأمَرَنا أن نخاطب الكافرين بقوله: ]لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ[ ]الكافرون: 6[، ]لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ [ ]الشورى: 15[،  ]وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ[ ]يونس: 41[.
إن أهل الأصول حصروا المصالح المرسلة في الوسائل المادية والمعاملات المباحة أصلا لا العبادات، فما بالك بالتوحيد؟ فالأصل أنها تطبق في إطار دين الله، وليس الدين هو الذي يطبق في إطارها، فهو الذي يضبطها لا العقل، ولولا ذلك لكانت تقديرات الكفار ومعاذيرهم معتبرة، يؤخذ بها لترك دين الله.
على هذه الحدية التي يعيبونها علينا يقوم الإسلام، لا على المصالح التي تتحكم فيها الأهواء، ولا على الظروف التي يتحكم فيها أحيانا الكفار المتغلبون، فهو لا يخضع للظروف السياسية والإقتصادية، فلا نسبية بين الحق والباطل، أو الخير والشر، أو الصحيح والخطأ، ولا يصح إخضاع هذه العناصر لإطار الزمان والمكان، فما كان بالأمس ظلما قد يصبح اليوم عدلا، وما كان رذيلة يصبح فضيلة أو العكس، وإن كان أي زمان وأي مكان لا يخلوان من شر وخير بنسب متفاوتة، لكن الخير والشر في حقيقتيهما لا يتغيران.
ولكن إفلاس الجاهلية المعاصرة في مجال القيم هو الذي اضطرها إلى العمل على فرض البعد النسبي، والتحلل من كل التزام.
إن الحدية التي يرفضونها لا تليق إذا كانت في خصومة شخصية بين الناس، أو أي شيء من هذا القبيل، حيث ينشد التقارب بين الأطراف، فيتنازل كل طرف عن بعض حقه، وهذا حتى لا يقع الصدام والعداوة، فلا يليق قول الشاعر:
ونحن أناس لا توسط بيننا       لنا الصدر دون العالمين أو القبر
أما الصراع بين الإسلام والكفر فلا تقارب ولا تنازل، لأنه صراع مبادئ لا صراع أشخاص، صراع بين الحق والباطل، فالتوحيد يؤخذ كله أو يترك كله، ولا توسط بين الإسلام والكفر، ]فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ[ ]يونس: 32[.
ولعل تعقد ظروف الحياة قد ساهم في جعل الناس أكثر ولوعا بالتعقيد، فيرون لكل باطل عذرا يظنون أنهم لم يفهموه، فيقولون: لعل للمسألة منحى آخر نجهله، ويربطون الحدية والمفاصلة والصراحة بالسطحية والسذاجة.
ثم إن الكفر إذا تميعت مذاهبه وتنازلت بقيت كفرا، لأن الكفر لا ضابط له، ومن ذلك قول بعضهم لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: هلم فلنعبد ما تعبد وتعبد ما نعبد، فنشترك نحن وأنت في الأمر.
يقول الله -عز وجل-: ]فَلاَ تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ[ ]القلم: /89[)، والكافرون في كل زمان مستعدون للتنازل عن أكثر مبادئهم من أجل أن نميل إليهم ولو شيئا قليلا، أما الإسلام إذا تميع وتنازل صار كفرا، وهذا كاللبن الخارج من بين فرث ودم إذا اختلط بهما، ]ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ[ ]محمد: 3[.
يقولون أنه لا دين يحتكر الحقيقة، بينما الحق من بين الأديان واحد لا يتعدد ما دامت متعارضة، فالخلاف بين الأديان ليس خلاف تنوع يثري الساحة كما يقال، وإنما هو خلاف تضاد، لأنها تحكم على نفس القضايا وأحكامها عليها متناقضة، وتقدم أخبارا وتفسيرات متعارضة، لذلك فهي لا تتكامل فيما بينها كما يدّعون، فعوض أن يكلفوا أنفسهم عناء البحث عن الحقيقة من بين الأديان سوّوا بينها، لتغليب مذاهب مفكريهم، وإيجاد تماسك اجتماعي بين الجميع في ظل العلمانية دائما.  
دين جديد يظهر في الأفق، إنه دين السوفسطائية القدامى يخرج اليوم في ثوب قشيب، مفاده تراجع مساحة التفسير العلمي للنص لصالح مساحة الواقع كيفما كان، بينما المبادئ كلها منذ وجدت وضعت لتصنع الواقع بطريقتها لا لتذوب فيه.
ولا شك أن وقوف الإسلام في وجه الوثنية والعلمانية أو وقوفهما في وجهه يوصف بالصحة أو البطلان، ولا يقاس بالنسب المئوية إلا في عقل ممسوخ.
لكنهم إذ يقولون بتعدد التفسيرات لدين الله، وأن للنصوص ظاهرا وحقيقة باطنة -كما قال زنادقة الشيعة والمتصوفة من قبل– يؤمنون من جهة أخرى أن مبادئهم وشرائعهم ليست نسبية المدلول وإنما محكمة، وحجيتها قاطعة، وتفسيرها واحد لا عوج له، أما دين الله فلا قواعد واضحة له يحتكم إليها، ما دام كلٌّ يفهمها كما يهوى، فيصبح الخلاف بين المسلمين والعلمانيين وكفار الشيعة والقبوريين مجرد اختلاف في تفسير النصوص، لا خلافا بين الإسلام والكفر.
وكل فكرة لها تفسير واحد صحيح لا أكثر مادام واضعها قصد أمرا واحدا، وأي مشرع لا يقبل أن تتضارب فهوم الناس في شرعه، وإن كانت أهواء الناس في تفسيراتهم أو مقادير فهمهم تختلف، فالعيب فيهم لا في الشرع.
ثم إنهم يؤمنون بالحدية وبعقيدة الولاء والبراء ضد المسلمين، ولا يقبلون التلاعب بالحد الفاصل بينهم وبين المسلمين، ولا يرون إلا الأبيض أو الأسود، قال الله عنهم: ]ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا[ ]غافر: 12[.
إن الإسلام عندهم دين مطاط لا ضابط له، ولا قاعدة تحدد معالمه، سواء شعروا بذلك أو لم يشعروا، وسواء منهم الذين يقصدون التحريف والتمييع أو الذين لا يقصدونه.
وسواء في ذلك العلمانيون المصرحون بعلمانيتهم الذين يحاربون حكم الله، ويقولون: لسنا أكثر إسلاما من غيرنا! والعلماء الذين يحاربون ما سموه بالتشدد والتكفير، فهم يعملون على محو أي فواصل بين الإسلام والعلمانية حتى لا يظهر كفرهم، ويبحثون عن صيغة توافقية وحل وسط بينهما، ولذلك فرح بهم دعاة العلمانية وأعجبوا بهم، فقالوا: نتبع دين الإسلام إجمالا دون إيغال في تفاصيله، لأن التفصيل يفضحهم، وفي التفاصيل يعشش الشيطان كما يقال.
أضف رد جديد